كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال في هذا المعنى ببيان آخر أوضح وأتمّ تفصيلا: {أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَة بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَد مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ} الآيات. فتدبّرها ففيها تنبيهات شريفة على أحوال أهل قبضة الغضب، وأهل قبضة الرحمة والرضا.
وأمّا التكميل فمشار إليه في تبديل السيّئات حسنات في قوله: أسلمت على ما أسلفت من خير. وفي الجمع بين حكم اليدين، وفي استجلاء الرحمة المستبطنة في الغضب والقهر وفي استطعام حلاوة الحلم مع القدرة، واستجلاء كمال الصبر مع أن لا مكره من خارج، فافهم، وارق فإنّك إن علوت عن هذا النمط وقت الرواح لا وقت العود استجليت سرّ القدر المتحكّم في العلم والعالم والمعلوم.
ومن رقى فوق ذلك رأى غلط الإضافات السابقة في الأفعال والأسماء والصفات والأحوال، فإن رقى فوق ذلك رأى الجمال المطلق لا قبح عنده، ولا تشريف ولا غلط ولا نقص ولا تحريف.
فإن رقى فوق ذلك رأى الجور والعدل والظلم والحلم والحقوق المؤدّاة والتقصير والبخس والإذهانة والجدّ والتعظيم والكتمان والإبانة كلّها محترقة بنور السبحات الوجهيّة، مستهلكة في عرصة الحضرة الذاتيّة الأحديّة.
فإن رقى فوق ذلك سكت فلم يفصح وخرس، فلم يوضح وعمي، فلم ينظر وذهب، فلم يظهر.
فإن أعيد ظهر بكلّ وصف، وكان المعنى المحيط بكلّ حرف لم يعتص عليه أمر، ولم يستغرب في حقّه عرفان ولا نكر.
مراتب الرضا:
ولنعد الآن إلى إتمام ما كنّا قد شرعنا فيه من تقسيم مراتب الرضا المثمر للتنعّم بالنعم، بعد تعدّينا بفضل الله مراتب الغضب والفراغ من ألسنة أحكامه، فنختم الكلام على الرضا لأنّه آخر الأحوال الإلهيّة حكما في السعداء، كما سننبّه عليه.
فنقول: مراتب الرضا المثمر للنعم كلّها والتنعّم بها ثلاث:
حكم أوّلها رضا الحقّ عن الموجودات من حيث استصلاحها لأن يتوجّه إليها بالإيجاد وبقسط مّا من الإحسان وحكم الثانية الرضا عن كافّة المؤمنين وحكم الثالثة الرضا عن خواصّهم، وعن الأنبياء والأولياء، كما ورد وثبت.
وهذا القسم ينقسم إلى قسمين: قسم خاص، وقسم أخصّ، فالخاصّ ما يتعلّق بالأنبياء والأولياء، والأخصّ هو الذي عيّنه سبحانه بقوله: {إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} فعرفنا أنّ هذا رضا مخصوص ليس لكلّ الرسل والأنبياء لعدم عموم حكم العلامة المذكورة، في الجميع مع رضاه عن سائرهم، ولأنّه أخبرنا أنّه قد رضي عن المؤمنين، فعن الأولياء أولى، فعن الأنبياء آكد، فما الظنّ بالرسل؟
فحيث خصّص هنا بمن وبالعلامة، عرفنا أنّه رضا خاصّ، وهو ثابت لا محالة لآخر الرسل صلّى اللّه عليه وآله فإنّه بعينه آخر الصفات الإلهيّة حكما في الآخرة في السعداء، فكان العطاء الآخر بالآخر محبّة وكمالا أنسب.
وأمّ أنّ الرضا آخر المنح الكلّيّة الحاصلة من الحقّ للسعداء فالحجّة فيه ظاهر ما ورد: إنّ اللّه سبحانه إذا تجلّى لعباده في الجنّة وخاطبهم ومنّاهم ولاطفهم وحيّاهم عدّد عليهم نعمه، ثم سألهم ماذا تريدون؟ فلا يجدون للتمنّي مساغا، فيقول: قد بقي لكم عندي، فيتعجّبون ويسألون، فيقولون: في آخر الأمر: «رضاي عنكم، فلا أسخط عليكم أبدا».
فيجدون لذلك من اللذّة والراحة ما لا يقدّر قدره أحد، فصحّ أنّ اللّه سبحانه يختم أمر السعداء بالرضا الذي به كمال نعيمهم، كما أنّ شهوده روح كلّ نعيم.
مراتب النعيم:
واعلم، أنّ مراتب النعيم أربع: مرتبة حسّية، وأخرى خياليّة، وثالثة روحانيّة، والرابعة السرّ الجامع بينها، الخصيص بالإنسان وهو الابتهاج الإلهي بالكمال الذاتي، يسري حكمه في الظاهر والباطن وما ذكر.
ومراتب الآلام أيضا الثلاث المذكورة، وهي في مقابلة الاعتدال الحسّي والروحاني والمثالي. والمقابل للابتهاج الرابع هو صفة الغضب. المحدث كلّ ألم وتعب وانحراف في المراتب الثلاث، وفي الأجسام الطبيعيّة هو الانحراف على اختلاف مراتبه، فافهم.
وأتمّ مراتب مطلق النعيم رؤية الحقّ على الوجه الذي أنبّهك عليه، وهو أن يكون الرائي خلقا، والمرئيّ حقّا، والذي يرى به حقّ أيضا، فهذه، الرؤية اللذيذة التي لا لذّة فوقها أصلا وما سوى هذه من المشاهدات، فإمّا دون هذه، وإمّا التي تفنى ولا لذّة معها. وإلى هذه أشار صلّى اللّه عليه وآله قوله في دعائه ربّه: «وارزقني لذّة النظر إلى وجهك الكريم أبدا دائما سرمدا» ولم يقل: ارزقني النظر إلى وجهك الكريم، فافهم، فالشرف والنعيم في العلم، وإلّا فمجرد الرؤية دون العلم لا يجدي.
ربّ امرئ نحو الحقيقة ناظر ** برزت له، فيرى ويجهل ما يرى

وتذكّر قول العلماء: اللذّة والنعيم عبارة عن إدراك الملائم من حيث هو ملائم، فحيث لا إدراك لا نعيم ولا نعمة إذا فإنّ المال والجاه والمطعم الشهيّ، والمنظر البهيّ وغير ذلك إنّما يعدّ نعمة ويتنعّم به من حيث إدراك ما في كلّ واحد منها من أحكام الكمال بالنسبة إلى المدرك.
فحصول اللذّة والتنعّم وتفاوته هو بحسب ذلك القرب الكمالي وصحّة الإدراك، فبمقدار قوّة إدراك الكمال من حيث أحكامه المناسبة للمدرك تقع اللذّة ويصدق اسم النعمة على ذلك الأمر عند المدرك.
ومن تحقّق بالكمال حتى صار منبعا لأحكامه، صار هو ينبوع النعم، وسببا لنعيم المتنعّمين من كونه عين النعم ونفس اللذّة لأنّه أصل كلّ شيء، فيظهر بحكمه متى شاء فيما أراد من الصفات والأحوال التي هو جامعها بالذات.
وأمّا هو فيلتذّ بكلّ ما يلتذّ به الملتذّون، مع اختصاصه بأمر لا يشارك فيه وهو تنعّمه باستجلائه حسن كماله وما تشتمل عليه مرتبته من الجهة التي تلائم حاله حين الاستجلاء، فافهم، فهذا عزيز جدّا.
ودون صاحب هذا الحال في النعيم في الدنيا من وافقت مراداته الطبيعيّة والنفسانيّة مراد الحقّ منه وعلمه فيه، مع ملاحظة ذلك في كثير من الأوقات، وإنّما قلت: في كثير من الأوقات لاستحالة دوام ذلك في كلّ حال.
ومثله أو دونه بيسير من تمكّن من الإبراز إلى الحسّ بكل ما تنشئه إرادته في ذهنه، وهذا التمكّن شرط في الكمال لا الظهور به، وإنّما جعلت هذه الرتبة بعد الرتبة الأولى لأنّ صاحب هذا التمكّن لابد وأن يكون متعوبا من جهات أخرى، هي من لوازم هذا التمكّن دون انفكاك، فاعلم ذلك.
وأكثر الناس تألّما في الدنيا من كثرت فيه الأمانيّ الشهيّة التي لم يقدّر الحقّ ظهورها في الخارج، مع نقص عزائمه في أكثر ما يتوخّاه، وشظف العيش، أعاذنا الله من ذلك.
مراتب الرضا الإنساني:
ثم نرجع ونقول: واعلم، أنّ للرضا المثمر للنعم والتنعّم بها في عرصة أحوال الإنسان أيضا ثلاث مراتب، كما هو الأمر في جانب الحقّ.
فأوّل درجاته فيه رضاه من حيث الباطن عن عقله، وما زيّن له من الأحوال والأعمال التي يباشرها، هذا عموما وأخصّ منه ما ورد من ذكر المؤمن له: رضيت بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلّى اللّه عليه وآله نبيّا، ومن حيث الظاهر رضاه عن ربّه بما تعيّن له منه من صور الأعمال والأحوال الظاهرة، التي يتقلّب فيها في حياته الدنيا ومعاشه، دون قلق مزعج يتمرّر به العيش، لا أنّه يطمئنّ ويسكن دون تمنّ وتشهّ فإنّ ذلك من أحكام المرتبة الثانية، وإنّما أعني ما عليه أكثر الناس من أهل الحرف والصنائع وأمثالهما.
وأمّا الرتبة الثانية من الرضا المقرون بقوّة الإيمان وارتفاع التهمة من جانب الحقّ فيما وعد وأخبر عاجلا في أمر الرزق، وباقي المقدورات التي الإنسان بصدد التلبّس بها، المتكرّر بيانها في الكتاب والسنّة، والمجمل في قوله تعالى: {ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ} فإنّه من عرف أنّ الله أرأف به من نفسه، وأعرف بمصالحه، وأشدّ رعاية لها منه، ويرى دقائق ألطافه، وحسن معاملته معه، وما له عليه من النعم التي لا تحصى ممّا حرمها غيره، فإنّه يرضى عنه وعمّا يفعله معه وإن تألّم طبعه، فذلك لا يقدح، وإنّما المعتبر في هذا نفسه القدسيّة فإنّ الرضا ليس من صفات الطبع.
وأتمّ حال يكون عليه أحد من أهل هذه المرتبة الثانية أن يقرّر في نفسه- إذ لا يخلو في كلّ حال يكون فيه من إرادة تقوم به، سواء كان مختارا في تلبّسه بذلك الحال أو مكرها عليه- أن يجعل إرادته تبعا لحكم الشرع في ذلك الحال، أو ذلك الأمر كائنا ما كان، فما أراده الشرع ورضي به، رضيه لنفسه في نفسه وفي غيره ومن غيره لاتّصافه بالإرادة لما أراده الشرع خاصّة دون غرض باق له على التعيين في أمر مّا غير ما عيّنه الشرع وسوّغه، هذا يعرفه أهل مقام الرضا فإنّ له أهلا من أكابر الصوفيّة ذائقين لحكمه، عارفين بأسراره، منصبغين بأحواله. والأدلّة والشواهد في هذا الباب بحسب الموازين المشروعة العامّة، والموازين الخاصّة والمتعارفة بين أهل هذا الشأن كثيرة لسنا نحتاج إلى ذكرها إذ القصد الإيجاز والإلماع لا البسط.
واعلم، أنّ كلّ مرتبة هاتين المرتبتين تشتمل على درجات لكلّ درجة أهل، وبين المرتبتين أيضا درجات كثيرة لها أرباب، وهكذا الأمر في كلّ ما ذكرناه من هذا القبيل في هذا الكتاب وغيره، إنّما نكتفي بذكر الأصول الحاصرة التي لا يخرج شيء عنها من جنسها.
وأمّا التفاصيل المتشعّبة فقد أضربنا عنها صفحا، لرغبتنا في الإيجاز، ولو لا قصور المدارك ما احتجت إلى هذه التنبيهات في أثناء الكلام لأنّها كالعلاوة الخارجة عن المقصود.
ثم نرجع ونقول: وأعلى مراتب الرضا في مرتبة العبوديّة أن يصحب العبد الحقّ لا بغرض ولا تشوّف ولا توقّع مطلب معيّن ولا أن يكون علّة صحبته له ما يعلمه من كماله، أو بلغه عنه، أو عاينه منه، بل صحبة ذاتيّة لا يتعيّن لها سبب أصلا، وكلّ أمر وقع في العالم أو في نفسه يراه ويجعله كالمراد له، فيلتذّ به ويتلقّاه بالقبول والبشر والرضا، فلا يزال من هذا حاله في نعمة دائمة ونعيم مقيم، لا يتّصف بالذلّة ولا بأنّه مقهور أو مغضوب عليه، فتدركه الآلام لذلك، وعزيز صاحب هذا المقام، قلّ أن يوجد ذائقة. وسبب قلّة ذائقة أمران:
أحدهما: عزّة المقام في نفسه لأنّه من النادر وجدان من يناسب الحقّ في شؤونه، بحيث يسرّه كلّ ما يفعله الحقّ وكأنّه هو فاعله والمختار له بقصد معيّن. وغير ذلك ممّا لا يمكن التصريح به.
والأمر الآخر: كون الطريق إلى تحصيل هذا المقام مجهولا، ولمّا كان الإنسان لا يخلو نفسا واحدا عن طلب يقوم به لأمر مّا، والطلب وصف لازم لحقيقته لا ينفكّ عنه، فليجعل متعلّق طلبه مجهولا غير معيّن إلّا من جهة واحدة، وهو أن يكون متعلّق طلبه ما شاء الحقّ إحداثه في العالم وفي نفسه أو غيره، فما رآه أو سمعه أو وجده في نفسه أو عامله به أحد، فليكن ذلك عين مطلوبه المجهول قد عيّنه له الوقوع، فيكون قد وفى حقيقة كونه طالبا، ويحصل له اللذّة بكلّ واقع منه أو فيه أو في غيره أو من غيره.
فإن اقتضى ذلك الواقع التغيّر تغيّر لطلب الحقّ منه التغيّر، فهو طالب الواقع، والتغيّر هو الواقع، ليس بمقهور فيه ولا مغضوب عليه، بل ملتذّ في تغيّره، كما هو ملتذّ في الموجد للتغيير، وما ثمّ طريق إلى تحصيل هذا المقام إلّا ما ذكر، فافهم.
وما رأيت بعد الشيخ رضي اللّه عنه من قارب هذا إلّا شيخا واحدا اجتمعت به في المسجد الأقصى، ثم في موضع آخر، هو من أكبر من لقيت، أعرف له من العجائب ما لا يقبله أكثر العقول. صحبته وشاهدت من بركاته في نفسي وفي ذوقي غرائب رضي اللّه عنه.
وصل في قوله: {وَلَا الضَّالِّينَ}:
قد سبق في تفسير هذه الكلمة نكت نفيسة بلسان الظاهر والباطن وغيرهما، تنبّه على جملة من الأسرار، وسنذكر الآن تمامها- إن شاء الله تعالى-، فنقول:
أمّا بيان ما بقي من ظاهرها فهو أنّ هذه الكلمة معطوفة على قوله: {غير المغضوب عليهم}، فهو استثناء تابع لاستثناء لا غير.
وأمّا الواجب بيانه هنا فتعيين مراتب الضلالة، وأهلها وأحكامها. ولنقدّم مقدّمة كلّية نافعة قريبة من الأفهام، ثم نشرع في التفصيل.
اعلم، أنّ إضلال الحقّ عبده هو عدم عصمته إيّاه عمّا نهاه عنه، وعدم معونته وإمداده بما يتمكّن به من الإتيان بما أمره به، أو الانتهاء عمّا نهاه عنه.